فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} قوله تعالى: {يا أسفى}: الألف منقلبة عن ياء المتكلم وإنما قُلِبَتْ ألفًا؛ لأن الصوتَ معها أَتَمُّ، ونداؤه على سبيل المجاز، كأنه قال: هذا أوانكَ فاحضر نحو: {يا حسرتى} [الزمر: 56]: وقيل: هذه ألفُ الندبة، وحُذِفَتْ هاءُ السكت وصلًا. قال الزمخشري: والتجانسُ بين لفظَتَي الأسف ويوسف ممَّا يقع مطبوعًا غيرَ مُتَعَمَّل فَيَمْلُح ويَبْدُع، ونحوه: {اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38]: {يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26]: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104]: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22]. قلت: ويُسَمَّى هذا النوع تجنيس التصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظٍ ويُفَرَّق بينهما بحرفٍ ليس في الأخرى، وقد تقدَّم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد {مِن الحَزَن} بفتحتين، وقتادة بضمتين، والعامَّةُ بضمة وسكون، فالحُزْن والحَزَن كالعُدْم والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ.
و{كظيم}: يجوز أن يكون مبالغةً بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مفعول كقولِه: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] وبه فسَّره الزمخشري.
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)}
قوله تعالى: {تَفْتَؤُاْ}: هذا جوابُ القسم في قوله: {تاللَّهِ} وهو على حذفِ لا، أي: لا تَفْتَأ، ويدلُّ على حَذْفها أنه لو كان مثبتًا لاقترن بلامِ الابتداء ونون التوكيد معًا عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين وتقول: واللَّهِ أحبُّك تريد: لا أحبك، وهو من التورية فإن كثيرًا من الناسِ مبادِرٌ ذهنَه إلى إثبات المحبة. و{تَفْتأ} هنا ناقصة بمعنى لا تزال فترفع الاسمِ وهو الضمير، وتنصِبُ الخبر وهو الجملة من قوله: {تَذْكُرُ}، أي: لا تزال ذاكرًا له، يقال: ما فتئ زيدٌ ذاهبًا. قال أوس بن حجر:
فما فَتِئَتْ حتى كأنَّ غبارَها ** سُرادِق يومٍ ذي رياحٍ تُرَفَّعُ

وقال أيضًا:
فما فَتِئَتْ خيلٌ تَثُوْبُ وتَدَّعي ** ويَلْحَقُ منها لاحِقٌ وتُقَطَّعُ

وعن مجاهد: لا تَفْتُر، قال الزمخشري: كأنه جعل الفُتوء والفُتور أخوين.
وفيها لغتان: فَتَأَ على وزن ضَرَب، وأَفْتَأَ على وزن أكرم، وتكون تامةً بمعنى سَكَّن وأطفأ كذا قاله ابن مالك، وزعم الشيخ أنه تصحيف منه، وإنما هي هي فَثَأ بالثاء المثلثة. ورُسِمَتْ هذه اللفظةُ: {تفتؤ} بالواو والقياس: {تفتأ} بالألف، ولذلك يُوْقَفُ لحمزة بالوجهين اعتبارًا بالخط الكريم أو القياس.
قوله: {حَرَضًا} الحَرَضُ: الإِشفاء على الموت يُقال منه: حَرَضَ الرجلُ يَحْرُض حَرَضًا بفتح الراء، فهو حَرِض بكسرها، فالحَرَضُ مصدر، فيجيء في الآية الأوجهُ في رجل عَدْل وقد تقدَّم مرارًا، ويُطْلَق المصدر من هذه المادة على الجُثَث إطلاقًا شائعًا، ولذلك يَسْتوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث تقول: هو حَرَضٌ، وهما حَرَض، وهم حَرَض، وهنَّ حَرَض، وهي حَرَض، ويقال: رجل حُرُض بضمتين نحو: جُنُب وشُلُل ويقال: أَحْرضه كذا، أي: أهلكه. قال الشاعر:
إني امرؤٌ لَجَّ بيْ حُبٌّ فَأَحْرَضَني ** حتى بَلِيْتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ

فهو مُحْرَض قال:
أرى المَرْءَ كالأذْوادِ يُصبح مُحْرَضًا ** كإحراض بِكْرٍ في الديار مريضِ

وقرأ بعضهم: {حَرِضًا} بكسر الراء. قال الزمخشري: وجاءَتِ القراءةُ بهما جميعًا. يعني بفتح الراء وكَسْرِها وقرأ الحسن بضمتين، وقد تقدم أنه كجُنُب وشُلُل، وزاد الزمخشري وغُرُب قال الراغب: الحَرَض: ما لا يُعْتَدُّ به ولا خيرَ فيه، ولذلك يقال لِما أشرف على الهلاك حَرِض، قال تعالى: {حتى تَكُونَ حَرَضًا} وقد أحرضه كذا، قال الشاعر:
أني امرؤ لجَّ

البيت.
والحُرْضَةُ: مَنْ لا يأكل إلا لحمَ المَيْسِر لنذالتِه، والتحريض: الحَثُّ على الشيء بكثرةِ التنزيين وتسهيل الخَطْبِ فيه كأنه إزالةُ الحَرَضِ نحو: قَدَّيْتُه، أي: أَزَلْتُ عنه القذى، وأَحْرَضْتُه: أَفْسَدْتُه نحو: أَفْذَيْتُه، أي: جَعَلْتَ فيه القذىانتهى.
والحُرُض: الأُشْنان لإِزالته الفسادَ، والمِحْرَضَةُ وعاؤُه، وشُذوذُها كشذوذ مُنْخُل ومُسْعُط ومُكْحُلَة.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)}
والبَثُّ أشدُّ الحزن كأنه لقوته لا يُطاق حَمْلُه فيبثُّه الإِنسان، أي: يُفَرِّقُه ويُذيعه، وقد تقدم أنَّ أصلَ هذه المادةِ الدلالةُ على الانتشار. وجَوَّز فيه الراغب هنا وجهين، أحدهما: أنه مصدرٌ في معنى المفعول، قال: أي غَمِّي الذي بَثَثْته عن كتمان، فهو مصدر في تقدير مفعول أو يعني غَمِّي الذي بَثَّ فكري فيكون في معنى الفاعل.
وقرأ الحسن وعيسى {وحَزَني} بفتحتين، وقتادة بضمتين وقد تقدم.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}
قوله تعالى: {فَتَحَسَّسُواْ}: أي: استقصوا خبره بحواسِّكم، ويكون في الخير والشر. وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشر، ولذلك قال هنا {فتحسَّسُوا}، وفي الحجرات: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الآية: 12]، وليس كذلك، فإنه قد قرئ بالجيم هنا. وتقدَّم الخلاف في قوله: {وَلاَ تَيْأَسُواْ}. وقرأ الأعرج: {تَيْئَسوا}.
والعامَّةُ على {رَوْح اللَّه} بالفتح وهو رحمتُه وتنفيسُه وقرأ الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة بضم الراء. قال الزمخشري، أي: مِنْ رحمتِه التي يحيا بها العباد. وقال ابن عطية: وكأن معنى هذه القراءة: لا تَيْئَسوا مِنْ حَيٍّ معه رُوح اللَّه الذي وهبه، فإنَّ مَنْ بقي روحُه يُرْجَى، ومِنْ هذا قول الشاعر:
وفي غيرِ مَنْ قدوارَتِ الأرضُ فاطْمَعِ **.....................

ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:
وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ ** وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ

وقراءة أُبَيّ رحمه اللَّه: {مِن رَّحْمَةِ الله} و: {عِنْدِ الله}، {مِن فَضْلِ الله} تفسيرُ لا تلاوة.
وقال أبو البقاء: الجمهورُ على فتح الراء، وهو مصدر في معنى الرحمة، إلا أنَّ استعمالَ الفعل منه قليل، وإنما يُسْتَعمل بالزيادة مثل أراح ورَوَّح، ويُقرأ بضم الراء وهي لغةٌ فيه. وقيل: هو اسمُ مصدرٍ مثل الشِّرْب والشُّرْب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}
تولَّى عن الجميع- وإن كانوا أولادَه- ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ لا تُبْقي ولا نَذَر.
ويقال أراد إخوةُ يوسفَ أن يكونَ إقبال يعقوب عليهم بالكليَّة فأَعْرَضَ، وتولَّى عنهم، وفَاتَهُم ما كان لهم، ولهذا قيل: مَنْ طَلَبَ الكُلَّ فاته الكلُّ.
ويقال لم يَجِدْ يعقوبُ مُساعِدًا لنفسِه على تأسفه على يوسف فتولَّى عن الجميع، وانفرد بإظهار، أسفه، وفي معناه أنشدوا:
فريدٌ عن الخِلاَّنِ في كل بلدةٍ ** إذا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ المُساعِدُ

ويقال كان بكاءُ داود عليه السلام أكثرَ من بكاء يعقوب عليه السلام، فلم يذهب بَصَرُ داود وذهْب بَصَرُ يعقوب؛ لأن يعقوب عليه السلام بكى لأَجْلِ يوسف ولم يكن في قدْرةِ يوسف أن يحفظَ بصره من البكاء لأجله، وأمَّا داود فقد كان يبكي لله، وفي قدرة الله- سبحانه- ما يحفظ بَصَرَ الباكي لأَجْلِه.
سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله- يقول ذلك، وقال رحمه الله: إن يعقوبَ بكى لأجل مخلوقٍ فذهب بَصَرَهُ، وداود بكى لأَجْل الله فبقي بَصَرُه.
وسمعته- رحمه الله- يقول: لم يقل الله: عَمِيَ يعقوب ولكن قال: {وَاْبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ}، لأنه لم يكن في الحقيقة عَمَىً، وإنما كان حجابًا عن رؤية غير يوسف.
ويقال كان ذهابُ بصرِ يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شيءَ أشدُّ على الأحبابِ من رؤية غير المحبوب في حال فراقه، وفي معناه أنشدوا:
لما تَيَقَّنْتُ أني لَسْتُ أُبْصرِكم ** أغمضتُ عيني فلم أنظر إلى أحد

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: كان يعقوب عليه السلام يتسلَّى برؤية بنيامين في حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال: {يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} أي أنه لما مُنِعَ من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمَّا بقي عن النظر قال: يا أسفا على يوسف.
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)}
هددوه بأن يصير حرضًا- أي مريضًا مشفيًا على الهلاك- وقد كان، وخوفُّوه مما لم يبالِ أن يصيبه حيث قالوا: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}.
ويقال أطيب الأشياء في الهلاك ما كان في حكم الهوى- فكيف يُخَوَّف بالهلاكِ من كان أحبُّ الأشياءِ إليه الهلاَك؟.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)}
شكا إلى الله ولم يَشْكُ مِنَ اللَّهِ، ومَنْ شكا إلى الله وَصَلَ، ومن شكا من الله انفصل.
ويقال لمَّا شكا إلى الله وَجَدَ الخَلَفَ من الله.
ويقال كان يعقوبُ عليه السلام مُتَحَمِّلًا بنفسه وقلبه، ومستريحًا محمولًا بِسِرِّه وروحه؛ لأنه عَلِمَ من الله- سبحانه- صِدقَ حالِه فقال: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وفي معناه أنشدوا:
إذا ما تمنَّى الناسُ روْحًا وراحةً ** تمنَّيْتُ أن أشكو إليكَ فَتَسْمَعَا

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}
كان يعقوب عليه السلام يبعث بنيه في طلب يوسف، وكان الإخوة يخرجون بطلب المسيرة وفي اعتقادهم هلاكُ يوسف... وكلُّ إنسانٍ وهمُّه.
ويقال قوله: {فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أمرٌ بطلب يوسف بجميع حواسِّهم؛ بالبَصَرِ لعلَّهم تقع عليه أعينهم، وبالسَّمْع لعلَّهم يسمعون ذِكْرَه، وبالشمِّ لعلهم يجدون رِيحَه؛ وقد توهَّم يعقوبُ أنهم مثله في إرادةِ الوقوفِ على شأنه. ثم أحالهم على فضل الله حيث قال: {لاَ يَاْيْئَسُ مِن رُّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}.
ويقال لم يكن ليعقوب أحدٌ من الأولاد بمكان يوسف، فَظَهَر من قِلَّةِ الصبر عليه ما ظهر، وآثَرَ غيْبَةَ الباقين من الأولاد في طلب يوسف على حضورهم عنده.. فشتَّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف! واحدٌ لم يَرَهْ فابْيَضَّتْ عيناه من الحزن بفرقته، وآخرون أَمرَهُم- باختياره- بِغَيْبَتِهم عنه. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [87]
قال سهل: أفضل الخدمة وأعلاها انتظار الفرج من الله تعالى، كما حكي عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انتظار الفرج بالصبر عبادة» وانتظار الفرج على وجهين: أحدهما قريب، والآخر بعيد؛ فالقريب في السر فيما بين العبد وربه، والبعيد في الخلق؛ فينظر إلى البعيد فيحجب عن القريب. اهـ.

.تفسير الآيات (88- 92):

قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فأجابوه إلى ما أراد، قتوجهوا إلى مصر لذلك ولقصد الميرة لما كان اشتد بهم من القحط، وقصدوا العزيز؛ وقوله: {فلما دخلوا عليه} بالفاء يدل على أنهم أسرعوا الكرة في هذه المرة: {قالوا} منادين بالأداة التي تنبه على أن ما بعدها له وقع عظيم: {يا أيها العزيز}.
ولما تلطفوا بتعظيمه، ترققوا بقولهم: {مسنا} أي أيتها العصابة التي تراها: {وأهلنا} أي الذين تركناهم في بلادنا: {الضر} أي لابسنا ملابسة نحسها: {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي تافهة غير مرغوب فيها بوجه، ثم سببوا عن هذا الاعتراف- لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم- قولهم: {فأوف لنا} أي شفقة علينا بسبب ضعفنا: {الكيل وتصدق} أي تفضيل: {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه.
ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله، عللوا ذلك بقولهم: {إن الله} أي الذي له الكمال كله: {يجزي المتصدقين} أي مطلقًا وإن أظهرت- بما أفاد الإظهار- وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.
فلما رأى أن الأمر بلغ الغاية ولم يبق شيء يتخوفه، عرفهم بنفسه فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله حكاية: {قال هل علمتم} مقررًا لهم بعد أن اجترؤوا عليه واستأنسوا به، والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان: {ما} أي قبح الذي: {فعلتم بيوسف} أي أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه: {وأخيه} في جعلكم إياه فريدًا منه ذليلًا بينكم، ثم في قولكم له لما وجدوا الصواع في رحله: لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل! وأعلمهم بأن ظنه فيهم الآن جميل تسكينًا لهم فقال: {إذ} أي حين: {أنتم جاهلون} أي فاعلون فعلهم- تلويحًا لهم إلى معرفته وتذكيرًا بالذنب ليتوبوا، وتلطفًا معهم في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث فيه المصدور، ويشتفي فيه المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، بتخصيص جهلهم- بمقتضى إذا- بذلك الزمان إفهامًا لهم أنهم الآن على خلاف ذلك، فكأنه قيل: إنه قد قرب لهم الكشف عن أمره، لأنه لا يستفهم ملك مثله- لم ينشأ بينهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم- هذا الاستفهام ولاسيما وقد روى أنه لما قال هذا تبسم، وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله معه من رآه ولو مرة واحدة، فهل عرفوه؟ فقيل: ظنوه ظنًا غالبًا، ولذلك: {قالوا} مستفهمين: {أإنك} وأكدوا بقولهم: {لأنت يوسف}.
ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه، استأنف بيان كرمه فقال: {قال أنا يوسف} وزادهم قوله: {وهذا أخي} أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله: {وأخيه} وليزيدهم ذلك معرفة له، وثبتها في أمره بتصديقه له مع مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم، وليبني عليه قوله: {قد منَّ الله} أي الذي له الجلال والإكرام: {علينا} بأن جمع بيننا على خير حال تكون؛ ثم تعليله بقوله: {إنه من يتق} وهو مجزوم لأنه فعل الشرط، وأثبت قنبل- بخلافه عنه- ياءه في الحالين معاملًا له معاملة الصحيح إشارة إلى وصف التقوى بالصحة الكاملة والمكنة الزائدة والملازمة لها في كل حال: {ويصبر} أي يوفه الله أجره لإحسانه: {فإن الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال: {لا يضيع} أي أدنى إضاعة- أجره، هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان، فقال: {أجر المحسنين} والتقوى: دفع البلاء بسلوك طريق الهدى؛ والصبر: حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام- إن لم تكن بالتدريج- عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج، ويقفوا على ذلك منه قولًا وفعلًا من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون، فتسكن روعتهم، وتهون زلتهم، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي أرادها، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداه، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله، فكان موضع الوجل والخجل، وموضع اليأس الرجاء، فحصل المراد على وفق السداد- والله الموفق؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة {لعلكم تعقلون} [يوسف: 2] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم، وأن لا يستعجلوه في أمر، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئًا فشيئًا على وجه الإحكام، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان- كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله؛: {حتى إذا استيئس الرسل} [يوسف: 110] الآية والله أعلم.